فصل: أثر الحكم في المجتهدات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


كاتب القاضي

43 - يستحبّ للقاضي أن يتخذ كاتباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت وغيره‏;‏ ولأن القاضي تكثر أشغاله ويكون اهتمامه ونظره متوجّهاً لمتابعة أقوال الخصوم وما يدلون به من حجج وما يستشهدون به من الشّهود فيحتاج إلى كاتب يكتب وقائع الخصوم، ويشترط في الكاتب كونه مسلماً عدلاً عارفاً بكتابة المحاضر والسّجلات ويستحبّ فقهه، ووفور عقله وجودة خطّه، فإن لم يكن له معرفة بالفقه كتب كلام الخصمين كما سمعه، ولا يتصرف فيه بالزّيادة والنّقصان، لئلا يوجب حقّاً لم يجب ولا يسقط حقّاً واجباً‏;‏ لأن تصرّف غير الفقيه بتفسير الكلام لا يخلو عن ذلك، وينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى القاضي ما يكتب ويصنع فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط، ويرى المالكية في القول الراجح عندهم أن اتّخاذ الكاتب أمر وجوبيّ‏.‏

أعوان القاضي‏:‏

44 - ينبغي للقاضي أن يتخذ أعواناً يكونون بين يديه‏;‏ لأن مجلس القضاء مجلس هيبة، فلو لم يتخذ أعواناً ربما يستخفّ بالقاضي فتذهب مهابته‏;‏ ولأنه يحتاج إلى إحضار الخصوم، والأعوان هم الذين يحضرون الخصوم إلى مجلس القضاء، ويزجرون من يستحقّ الزجر من الخصوم، وينبغي أن يكون هؤلاء من ذوي الدّين والأمانة والبعد عن الطمع‏.‏

حاجب القاضي

45 - الحاجب - هنا - من يقوم بإدخال الخصوم على القاضي ويرتّبهم فيقدّم من حضر أولاً ثم الذي يليه وهكذا، ويمنع الخصوم من التدافع على مجلس القضاء‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في جواز اتّخاذ القاضي حاجباً، فذهب الحنفية والمالكية إلى جواز ذلك، والمرجع فيه عندهم الشرع فقد اتخذ الخلفاء الراشدون حجاباً‏.‏

وقال الشافعية والحنابلة‏:‏ ينبغي للقاضي أن لا يتخذ حاجباً يحجب الناس عن الوصول إليه، لما روى أبو مريم رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره»‏;‏ ولأن حاجب القاضي ربما قدم المتأخّر وأخر المتقدّم لغرض له، ولا بأس عندهم باتّخاذ حاجب في غير مجلس القضاء، وفي حال الزحمة وكثرة الناس، وقال القاضي أبو الطيّب الطبريّ من الشافعية‏:‏ يستحبّ للقاضي أن يتخذ حاجباً، وعلق ابن أبي الدم الحمويّ على ذلك بقوله‏:‏ هذا هو الصحيح لا سيما في زماننا هذا مع فساد العوام، ولكلّ زمن أحوال ومراسم تقتضيه وتناسبه‏.‏‏.‏‏.‏ وكلام الشافعيّ وغيره‏:‏ أنه لا ينبغي أن يتخذ حاجباً، محمول على ما إذا قصد بالحاجب الاحتجاب عن الناس والاكتفاء به، أو حالة الخوف من ارتشاء الحاجب، وتفصيل شروط الحاجب وآدابه ينظر في مصطلح ‏(‏حاجب ف /9‏)‏‏.‏

المزكّي

46 - المراد بالمزكّي في باب القضاء من يعتمد عليه في تعديل الشّهود‏.‏

ذهب الفقهاء إلى أن القاضي إذا عرف عدالة الشّهود فلا يحتاج إلى تزكيتهم، وإن عرف أنهم مجروحون رد شهادتهم‏.‏

وهل يتخذ القاضي مزكّياً يتحرى عن الشّهود ويتعرف حال من يجهل منهم‏؟‏‏.‏

قال الحنفية والمالكية‏:‏ إن التزكية نوعان‏:‏ تزكية السّرّ، وتزكية العلانية، أما تزكية السّرّ، فينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشّهود، من هو أوثق الناس، وأورعهم ديانةً، وأعظمهم درايةً، وأكثرهم خبرةً، وأعلمهم بالتميّز فطنةً، فيولّيه المسألة عن الشّهود سرّاً، فيسأل ذلك الرجل عن الشاهد من يثق به من جيرانه وأهل محلته وأهل سوقه، ولا ينقل للقاضي إلا ما اتفق عليه عدلان فأكثر، والعدد في المزكّي ليس بشرط عند الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والواحد يكفي والاثنان أحوط، وقال محمد‏:‏ شرط حتى لا تثبت العدالة بقول الواحد، ومنشأ الخلاف هل هو شهادة أم إخبار‏.‏

أما تزكية العلانية فقد قال صاحب معين الحكام‏:‏ إنه قد وقع الاكتفاء بتزكية السّرّ لما في تزكية العلانية من فتنة بسبب ما يلاقيه المزكّي من بلاء من الشاهد في حالة تجريحه‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ ينبغي أن يكون للقاضي مزكّون، وأصحاب مسائل، فالمزكّون يرجع إليهم ليبيّنوا حال الشّهود، وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم القاضي إلى المزكّين ليبحثوا ويسألوا، وليس المراد بالمزكّي واحداً بل اثنين فأكثر‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنه ليس للقاضي أن يرتّب شهوداً لا يقبل غيرهم لوجوب قبول شهادة من تثبت عدالته، ولكن له أن يرتّب شهوداً يشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم، ويستغني القاضي عن الكشف عن أحوالهم، فيكون فيه تخفيف من وجه، ويقوم هؤلاء بتزكية من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد‏.‏

المترجم

47 - لا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز للقاضي أن يتخذ مترجماً إذا كان لا يعرف لغة الخصم أو الشاهد، ويكفي المترجم الواحد عند أبي حنيفة والمالكية وأبي يوسف وأحمد في روايةً عنه وهي اختيار أبي بكر من الحنابلة وقاله ابن المنذر، قال زيد بن ثابت‏:‏ «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب يهود، قال‏:‏ إنّي وألله ما آمن يهود على كتاب، قال‏:‏ فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال‏:‏ فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم»، ولأنه مما لا يفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيه الواحد كأخبار الدّيانات‏.‏

والقول أنه يكفي الواحد العدل - عند المالكية - محلّه إذا رتبه القاضي، أما إذا لم يرتّبه بأن أتى به أحد الخصمين، أو طلبه القاضي للتبليغ فلا بد فيه من التعدّد لأنه صار كالشاهد، وقد حكى الدّسوقيّ أن المترجم من قبل القاضي يكفي فيه الواحد اتّفاقاً‏.‏

وذهب الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة ومحمد من الحنفية إلى أن الترجمة شهادة، ويعتبر في المترجم ما يعتبر في الشهادة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ترجمة ف /15‏)‏‏.‏

استخلاف القاضي

48 - اتفق الفقهاء على أن الإمام إذا أذن للقاضي في الاستخلاف فله ذلك وعلى أنه إذا نهاه فليس له أن يستخلف، وذلك لأن القاضي إنما يستمدّ ولايته من الإمام، فلا يملك أن يخالفه في تعيين خلف له متى نهاه، كالوكيل مع الموكّل، أما إن أطلق الإمام فلم يأذن ولم ينه فهناك اتّجاهات في المذاهب تفصيلها في مصطلح ‏(‏استخلاف ف / 32‏)‏‏.‏

كتاب القاضي إلى غيره من القضاة

49 - للقاضي أن يكتب إلى غيره من القضاة بما وجب عنده من حكم، أو ثبت عنده من حقّ، ويكتب به إلى من هو أعلى منه، وأدنى، وإلى خليفته، ومستخلفه‏.‏

ويكون المقصود به أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يثبت به عند الثاني ما ثبت عند الأول‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقوم في تنفيذه واستيفائه مقام الأول‏.‏

واستدل على جواز قبول كتاب القاضي بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنه كتب إلى الضحاك بن سفيان أن يورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها»‏;‏ ولأن بالناس حاجةً إلى ذلك‏.‏

الشهادة على كتاب القاضي

50 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأشهب من المالكية إلى أن القاضي لا يقبل إلا شهادة عدلين يقولان‏:‏ إنه قرأه علينا أو قرئ عليه بحضرتنا، وقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ لا بد أن يشهد الشّهود بختم القاضي، وبمثل ذلك صرح الشافعية، وقال أبو يوسف‏:‏ إذا شهدوا بالكتاب والخاتم تقبل وإن لم يشهدوا بما في الكتاب، وكذا إذا شهدوا بالكتاب وبما في جوفه تقبل وإن لم يشهدوا بالخاتم، وحكي عن الحسن وسوار والعنبريّ أنهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله، وهو قول أبي ثور والإصطخري‏.‏

وذهب المالكية إلى اشتراط الشاهدين ولم يقيّدوا ذلك بقراءة الكتاب عليهم وقالوا‏:‏ أما كتاب القاضي المجرد عن الشهادة، فلا أثر له، قال ابن رشد‏:‏ والعمل عندنا اليوم بإفريقية على ما كان عليه السلف في القديم من الشهادة على خطّ القاضي، وفي التنبيه لابن المناصف - من المالكية - قوله‏:‏ وقد التزم الناس اليوم في سائر بلادنا إجازة كتب القضاة بمعرفة الخطّ، وكافة الحكام قد تمالئوا على إجازة ذلك والتزامه والعمل به في عامة الجهات للاضطرار إليه، ولأن المطلوب إنما هو قيام الدليل وثبوته على أن ذلك الكتاب كتاب القاضي، فإذا ثبت عند المكتوب إليه معرفة خطّه ثبوتاً لا يشكّ فيه أشبه الشهادة عليه وقام مقامها‏.‏

وإن لم يتحقق القاضي خط الكاتب فلا بد من شاهدين عدلين يعرفان خط القاضي الكاتب‏.‏

وإذا كان الخصم هو الذي سار بالكتاب فلا يقبل حتى يأتيه بشاهدين يشهدان أنه كتاب القاضي وإذا ثبت عند القاضي المكتوب إليه أنه كتاب القاضي الأول لزم أن يقضي بما كتب إليه من ذلك‏.‏

اشتراط المسافة

51 - يرى الحنفية‏:‏ أنه لا بد من وجود مسافة قصر بين بلد القاضي الكاتب والمكتوب إليه‏.‏ ولم يفرّق الإمام مالك بين ما يكتبه القاضي البعيد عن مكان القاضي المكتوب إليه أو القريب من مكانه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يقبل وإن كانا ببلد واحد إلا إذا بعث إلى القاضي الآخر ليحكم بما ثبت عند الأول فلا يكون إلا إذا فصلت بينهما مسافة قصر‏.‏

وفصل الشافعية فقالوا‏:‏ إن تضمن الكتاب نقل شهادة فقط، سمع في مسافة القصر قولاً واحداً، وإن تضمن ثبوت الحقّ فقط ففيه وجهان‏:‏ والأصحّ عندهم أنه لا يسمع إلا في المسافة البعيدة، وفي مسافة العدوى خلاف مشهور وإن تضمن الكتاب الحكم بالحقّ سمع في القريب والبعيد كيف كان مراسلةً أو مشافهةً‏.‏

الحقّ المكتوب به

52 - كتب القضاة إلى القضاة جائزة في سائر حقوق الناس‏:‏ الدّيون والعقارات والشركات والغصب الوديعة، وهذا ما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة في الجملة، لكن بعضهم قيد الجواز بشروط معينة فعند أبي حنيفة والشافعيّ في الأصحّ ومحمد وأبي يوسف لا تقبل في الأعيان التي تقع الحاجة إلى الإشارة إليها كالمنقول من الحيوان والعروض لعدم التميّز، حكي عن الشافعيّ قول ثان بجواز الحكم بالشهادة في تلك الأعيان لما يجب من حفظ الحقوق على أهلها، وذهب الحنفية إلى أنه لا يقبل كتاب القاضي في الحدود، ولا القصاص وعللوا ذلك بأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة وأنه لا تقبل فيهما، ويرى الشافعية أن الحق إن كان للآدميّ كالقصاص، وحدّ القذف استوفاه المكتوب إليه، فأما ما كان من حقوق الله تعالى ففي جواز استيفائه بكتاب القاضي إلى القاضي قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ يستوفى كحقوق الآدميّين، والثاني‏:‏ عدم الجواز لأن حقوق الله تدرأ بالشّبهات‏.‏

وعند مالك وابن أبي ليلى يقبل في الحقوق والأحكام كلّها‏.‏

وذهب الحنابلة إلى قبول الكتاب في كلّ حقّ لآدميّ بما في ذلك القود وحدّ القذف لأنه حقّ آدميّ لا يدرأ بالشّبهة ولا يقبل في حدود الله تعالى‏.‏

خصوص الكتاب وعمومه

53 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية إلى أن للقاضي أن يكتب إلى قاض معين، أو أن يكتب إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله كما لو كان الكتاب إليه بعينه‏.‏

وزاد الشافعية أنه لو كتب إلى قاض معين، وسماه في كتابه، وجب على كلّ قاض غيره تنفيذه والعمل به إذا قامت به بيّنة عنده‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينفذ الكتاب ولا يقبل إلا إذا كان القاضي الكاتب قد عين واحداً من الناس‏.‏

المشافهة

54 - يرى الحنفية أن القاضي إذا شافه قاضياً آخر في عمله لم يقبل ذلك لأن الكتاب بمنزلة الشهادة، وقال ابن فرحون من المالكية‏:‏ مشافهة القاضي للقاضي بما حكم به الأول على وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون القاضيان ببلد واحد فيشافه أحدهما الآخر بما ثبت عنده من شهادة أو حكم فيحكم الآخر بذلك أو ينفّذ الحكم‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون كلّ منهما في طرف عمله، فإذا اجتمعا أنهى أحدهما إلى الآخر مشافهةً ما يريد إنهاءه إليه، فيلزم الآخر العمل بمقتضاه‏.‏

أما ابن جزيّ فقد قال‏:‏ إن المشافهة غير كافية‏;‏ لأن أحدهما في غير محلّ ولايته ومن كان في غير موضع ولايته لم ينفذ حكمه ولم يقبل خطابه‏.‏

وعند الشافعية تتصور المشافهة من أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أن يجتمع القاضي الذي حكم وقاضي بلد الغائب في غير البلدين ويخبره بحكمه‏.‏ والثاني‏:‏ أن ينتقل الذي حكم إلى بلد الغائب ويخبره، ففي الحالين لا يقبل قوله، ولا يمضي حكمه لأن إخباره في غير موضع ولايته، كإخبار القاضي بعد العزل‏.‏

والثالث‏:‏ أن يحضر قاضي بلد الغائب في بلد الذي حكم فيخبره، فإذا عاد إلى محلّ ولايته، فهل يمضيه‏؟‏ إن قلنا‏:‏ يقضي بعلمه فنعم، وإلا فلا على الأصحّ، كما لو قال ذلك القاضي‏:‏ سمعت البيّنة على فلان بكذا، فإنه لا يترتب الحكم عليه إذا عاد إلى محلّ ولايته‏.‏

والرابع‏:‏ أن يكونا في محلّ ولايتهما، بأن وقف كلّ واحد في طرف محلّ ولايته، وقال الحاكم‏:‏ حكمت بكذا فيجب على الآخر إمضاؤه لأنه أبلغ من الشهادة والكتاب، وكذا لو كان في البلد قاضيان وجوزناه، فقال أحدهما للآخر‏:‏ حكمت بكذا فإنه يمضيه، وكذا إذا قاله القاضي لنائبه في البلد، وبالعكس، ولو خرج القاضي إلى قرية له فيها نائب فأخبر أحدهما الآخر بحكمه أمضاه الآخر‏;‏ لأن القرية محلّ ولايتهما، ولو دخل النائب البلد فقال للقاضي‏:‏ حكمت بكذا لم يقبله، ولو قال له القاضي‏:‏ حكمت بكذا، ففي إمضائه إياه إذا عاد إلى قريته الخلاف في القضاء بالعلم‏.‏

تغيّر حال القاضي الكاتب

55 - إذا تغيرت حال القاضي الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من يده أو بعده، وهو ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة‏.‏

وأما الحنفية فيقولون‏:‏ إذا مات القاضي أو عزل قبل وصول كتابه إلى القاضي الآخر، فلا يعمل به في هذه الحالة، ولو مات بعد وصول الكتاب إليه جاز له أن يقضي به‏.‏

تغيّر حال القاضي المكتوب إليه

56 - يرى المالكية وأكثر الشافعية والحنابلة أن القاضي المكتوب إليه إن تغيرت حاله بأيّ حال كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل إليه الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به، وقد حكي عن الحسن أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتاباً فوصل وقد عزل وولّي الحسن فعمل به، إلا أن المالكية اشترطوا الإشهاد على الكتاب ولم يكتفوا بمعرفة الخطّ‏.‏

ويرى الحنفية وفي وجه عند الشافعية أنه لا يعمل به لأنه لم يكتب إليه‏.‏

اختلاف الرأي في حكم الواقعة

57 - إذا كتب قاض إلى قاض بكتاب فيه اختلاف بين الفقهاء، والمكتوب إليه لا يرى ذلك الرأي ولا يأخذ به، فإن كان ما تضمنه الكتاب حكماً جاز إنفاذه عند الحنفية والمالكية والحنابلة ما لم يخالف نصّاً أو إجماعاً، فإن لم يكن حكماً لم ينفّذه وإنما هو بمنزلة الشهادة، وعند الشافعية إن كان إنما كتب مما ثبت عنده للخصم أو بما أشبه ولم يفصّل ذلك بحكم فليعمل برأيه الذي يختاره مما اختلفوا فيه ولا يعمل برأي الكاتب إليه، وإن كان مما حكم به القاضي الأول مما لا يراه هو فليس له أن يمضيه لاعتقاده أنه باطل، وليس له أن ينقضه‏;‏ لاحتماله في الاجتهاد، وليس له أن يأخذ المطلوب بأدائه‏;‏ لأنه غير مستحقّ عنده، وليس له أن يمنع الطالب منه‏;‏ لنفوذ الحكم به‏.‏

رزق القاضي

58 - القاضي من عمال المسلمين وأجلّ عمالهم وهو القيّم بمصالح الجميع وقد قال الحنفية‏:‏ لا بأس أن يطلق الإمام للقاضي من الرّزق ما يكفيه من بيت المال حتى لا يلزمه مئونة وكلفة، وأن يوسّع عليه وعلى عياله، كي لا يطمع في أموال الناس، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وولاه أمرها رزقه أربعمائة درهم في كلّ عام، وكذلك فرض الصحابة للقضاة رزقاً من بيت المال، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل في الشام أن انظروا رجالاً من أهل العلم من الصالحين من قبلكم فاستعملوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم في الرّزق ليكون لهم قوةً وعليهم حجةً‏.‏

وما تقدم من جواز أخذ القاضي للرّزق هو في حالة كونه فقيراً، أما إن كان غنيّاً فقد اختلف فقهاء الحنفية في ذلك فقال بعضهم‏:‏ لا يحلّ له الأخذ لأنه لا حاجة له فيه، وقال آخرون‏:‏ يحلّ له الأخذ والأفضل له أن يأخذ، أما الحلّ فلأنه عامل للمسلمين فكانت كفايته عليهم لا من طريق الأجر، وأما الأفضلية‏;‏ فلأنه وإن لم يكن محتاجاً إلى ذلك فربما يجيء بعده قاض محتاج وقد صار ذلك سنةً ورسماً فيمتنع وليّ الأمر عن إعطائه، فكان الامتناع من الأخذ شحّاً بحقّ الغير، وكان الأفضل هو الأخذ‏.‏

وقال المالكية والشافعية إن تعين عليه القضاء وعنده كفاية تغنيه عن الارتزاق لم يجز له أخذ شيء، حكي عن الشاشيّ من الشافعية أنه قال‏:‏ يجوز لمن تعين عليه وله كفاية أخذ الرّزق، أما من تعين عليه وهو محتاج إلى الرّزق فله الأخذ بقدر الكفاية وإن لم يتعين عليه القضاء وهو محتاج إلى الرّزق من بيت المال فله أن يأخذ بقدر كفايته وكفاية عياله على ما يليق بحالهم، وإن كان غنيّاً فالأولى له أن لا يأخذ شيئاً‏.‏

وزاد الشافعية أنه ينبغي للإمام أن يجعل من بيت المال شيئاً من رزق القاضي لثمن ورق المحاضر والسّجلات وأجرة الكاتب‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أن للقاضي طلب الرّزق من بيت المال لنفسه وأمنائه وخلفائه مع الحاجة وعدمها لأن عمر رزق شريحاً في كلّ شهر مائة درهم وفرض لزيد وغيره، وأمر بفرض الرّزق لمن تولى القضاء‏;‏ ولأنه لو لم يجز فرض الرّزق لتعطلت وضاعت الحقوق‏.‏

وقال أبو الخطاب من الحنابلة‏:‏ يجوز له أخذ الرّزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين، والصحيح جواز أخذ الرّزق عليه بكلّ حال لأن عمر فرض الرّزق لقضاته وأمر بفرض الرّزق لمن تولى القضاء‏.‏

اشتراط الأجرة على القضاء

59 - يرى الحنفية والحنابلة وهو المذهب عند الشافعية أنه لا يجوز الاستئجار على القضاء، قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجراً، وذلك لأنه قربة يختصّ فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه‏;‏ ولأنه عمل غير معلوم، قال ابن قدامة‏:‏ فإن لم يكن للقاضي رزق فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقاً عليه جاز، ويحتمل أن لا يجوز وفي فتاوى القاضي حسين من الشافعية وجه أنه يجوز، والمذهب الأول وبه قطع الجمهور‏.‏

وفصل الماورديّ الكلام في هذه المسألة بما خلاصته‏:‏ إن كان القاضي في حاجة إلى الرّزق وعمله يقطعه عن اكتساب المال فيجوز له الأخذ بشرط أن يعلم الخصمين قبل التحاكم إليه، وأن يأخذ منهما معاً، لا من أحدهما، وذلك بعد إذن الإمام، وأن يكون ما يأخذه من الخصمين لا يزيد على قدر حاجته، ولا يضرّ بهما وأن يكون ذلك القدر مشهوراً يتساوى فيه جميع الخصوم ما لم يطل زمن خصومة الخصمين عما سواها‏.‏

التفتيش على أعمال القضاة

60 - ينبغي للإمام أن يتفقد أحوال القضاة، فإنهم قوام أمره، ورأس سلطانه، وكذلك قاضي القضاة ينبغي أن يتفقد قضاته ونوابه فيتصفح أقضيتهم، ويراعي أمورهم وسيرتهم في الناس، إذ لا يجوز للقاضي تأخير الخصوم إذا تنازعوا إليه إلا من عذر، ويأثم إذا أخر الفصل في النّزاع بدون وجه حقّ، ويعزر ويعزل، ولا يجوز للقاضي تأخير الحكم بعد وجود شرائطه إلا في ثلاث‏:‏ الرّيبة، ولرجاء صلح الأقارب، وإذا استمهل المدعي وكذا المدعى عليه في حالة تقديم دفع صحيح يطلب مهلةً لإحضار بيّنته‏.‏

مسئولية القاضي

61 - اختلف الفقهاء في مسئولية القاضي، هل يؤاخذ بما يقع في أحكامه من أخطاء أم أنه لا تجوز مساءلته عن ذلك بسبب كثرة ما يجري على يده من التصرّفات والأحكام‏.‏

فذهب الحنفية إلى أن القاضي إذا أخطأ في قضائه، بأن ظهر أن الشّهود كانوا محدودين في قذف، فالأصل أنه لا يؤاخذ بالضمان‏;‏ لأنه بالقضاء لم يعمل لنفسه بل لغيره فكان بمنزلة الرسول، فلا تلحقه العهدة‏.‏

ثم ينظر في المقضيّ به، فإن كان من حقوق العباد، بأن كان مالاً وهو قائم رده على المقضيّ عليه‏;‏ لأن قضاءه وقع باطلاً وردّ عين المقضيّ به ممكن فيلزمه ردّه، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»‏;‏ ولأنه عين مال المدعى عليه، ومن وجد عين ماله فهو أحقّ به، وإن كان هالكاً فالضمان على المقضيّ له، ولأن القاضي عمل له فكان خطؤه عليه، ليكون الخراج بالضمان‏;‏ ولأنه إذا عمل له فكأنه هو الذي فعل بنفسه، وإذا كان حقّاً ليس بمال كالطلاق‏.‏ بطل لأنه تبين أن قضاءه كان باطلاً، وأنه أمر شرعيّ يحتمل الرد فيردّ بخلاف الحدود والمال الهالك‏;‏ لأنه لا يحتمل الرد بنفسه فيردّ بالضمان‏.‏

وأما إن كان من حقّ الله عز وجل خالصاً فضمانه في بيت المال‏;‏ لأنه عمل في الدعوى لعامة المسلمين لعود منفعتها إليهم وهو الزجر، فكان خطؤه عليهم ولا يضمن القاضي‏.‏

وإن كان القضاء بالجور عن عمد وأقر به، فالضمان في ماله في الوجوه كلّها بالجناية والإتلاف، ويعزر القاضي ويعزل عن القضاء‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن علم القاضي بكذب الشّهود وحكم بما شهدوا به من رجم أو قتل أو قطع، فالقصاص عليه دون الشّهود، أما إذا لم يعلم فلا قصاص، وإن علم القاضي بما يقدح في الشاهد كالفسق لزمته الدّية، وقال ابن القاسم‏:‏ إذا عزل القاضي فادعى أناس أنه جار عليهم‏:‏ أنه لا خصومة بينهم وبينه، ولا ينظر فيما قالوا عنه إلا أن يرى الذي بعده جوراً بيّناً فيرده ولا شيء على القاضي‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إذا حكم بشهادة اثنين ثم بان كونهما ممن لا تقبل شهادتهما وجب على القاضي نقض حكمه، فإن كان طلاقاً أو عقداً فقد بان أنه لا طلاق ولا عقد حتى لو كانت المرأة ماتت فقد ماتت وهي زوجته، وإن كان المشهود به قتلاً أو قطعاً أو حدّاً استوفي وتعذر التدارك فضمانه على عاقلة القاضي على الأظهر وفي بيت المال على القول الآخر، وإنما تعلق الضمان بالقاضي لتفريطه بترك البحث عن حال الشّهود، ولا ضمان على المشهود له، ولا على الشّهود لأنهم ثابتون على شهادتهم، وإذا غرمت العاقلة أو بيت المال فهل يثبت الرّجوع على الشّهود، فيه خلاف، والذي قطع به العراقيّون أنه لا ضمان على الشّهود، ولا ضمان على المزكّين، وقال القاضي أبو حامد‏:‏ يرجع الغارم على المزكّين لأنه ثبت أن الأمر على خلاف قولهم، ولم يثبت أنه خلاف قول الشّهود ولا رجوع لهم في هذه الحالة على القاضي‏.‏

وإن كان المحكوم به مالاً، فإن كان باقياً عند المحكوم له انتزع، وإن كان تالفاً أخذ منه ضمانه، فإن كان المحكوم له معسراً أو غائباً، فللمحكوم عليه مطالبة القاضي ليغرم له من بيت المال في قول ومن خالص ماله في قول آخر لأنه ليس بدل نفس تتعلق بالعاقلة، ويرجع القاضي على المحكوم له إذا ظفر به موسراً، وفي رجوعه على الشّهود خلاف، وقياساً على ما سبق قيل‏:‏ إن المحكوم عليه يتخير في تغريم القاضي وتغريم المحكوم له‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يجب الضمان على القاضي إذا حكم بقطع أو قتل بمقتضى شهادة شاهدين ظهر فيما بعد عدم جواز شهادتهما، ولا قصاص عليه لأنه مخطئ وتجب الدّية، وفي محلّها روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ في بيت المال لأنه نائب للمسلمين ووكيلهم، وخطأ الوكيل في حقّ موكّله عليه‏;‏ ولأن خطأ القاضي يكثر لكثرة تصرّفاته وحكوماته‏.‏

والرّواية الثانية‏:‏ هي على عاقلته مخففة مؤجلة‏.‏

وإذا حكم القاضي بمال بموجب شهادة اثنين ثم بان أنه لا تقبل شهادتهما فينقض الحكم ويردّ المال إن كان قائماً وعوضه إن كان تالفاً، فإن تعذر ذلك فعلى القاضي ضمانه، ثم يرجع على المشهود له، وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ لا ينقض حكمه إذا كان الشاهدان فاسقين ويغرم الشّهود المال‏.‏

وقالوا‏:‏ إن بان خطأ القاضي في حكمه - في إتلاف - بمخالفة دليل قاطع لا يحتمل التأويل ضمن القاضي ما تلف بسببه‏.‏

انتهاء ولاية القاضي

62 - تنتهي ولاية القاضي بعزله عند من يرى صحة عزله، أو اعتزاله القضاء من تلقاء نفسه، أو بموته‏.‏

واتفق الفقهاء على أن القاضي لا ينعزل بعزل الإمام ولا بموته، وعلل الحنفية ذلك بأن القاضي يخرج من القضاء بكلّ ما يخرج به الوكيل عن الوكالة، لا يختلفان إلا في شيء واحد وهو أن الموكّل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل، والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته وولاته، ووجه الفرق‏:‏ أن الوكيل يعمل بولاية الموكّل وفي خالص حقّه وقد بطلت أهلية الولاية فينعزل الوكيل، والقاضي لا يعمل بولاية الخليفة وفي حقّه، بل بولاية المسلمين وفي حقوقهم، وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عنهم لهذا لم تلحقه العهدة، وولاية المسلمين - بعد موت الخليفة - باقية، فيبقى القاضي على ولايته‏.‏

وعلل المالكية والشافعية والحنابلة ذلك بأن القاضي ليس نائباً عن الإمام فلا ينعزل بموته‏;‏ ولأن الإمام يستنيب القضاة في حقوق المسلمين فلم ينعزلوا، ولأن الخلفاء رضي الله عنهم ولوا حكاماً في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم‏;‏ ولأن في عزله بموت الإمام ضرراً على المسلمين، فإن البلدان تتعطل من الحكام، وتقف أحكام الناس، وفيه ضرر عظيم‏.‏

عزل القاضي

63 - لا يختلف الفقهاء في أن لوليّ الأمر أن يعزل القاضي إذا ظهر منه خلل كفسق أو مرض يمنعه من القضاء، أو اختل فيه بعض شروطه، لكنهم يختلفون في حكم عزله للقاضي دون موجب، فيرى الحنفية والمالكية والشافعية وهو قول الحنابلة في أحد الوجهين أن الإمام إذا عزل القاضي وقع العزل، لكن الأولى عدم عزله إلا لعذر، فلو عزله دون عذر فإنه يتعرض لإثم عظيم، واستدلّوا على جواز العزل بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لأعزلن أبا مريم، وأولّين رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه ‏"‏، فعزله عن قضاء البصرة، وولى كعب بن سوار مكانه، وولى عليّ رضي الله عنه أبا الأسود ثم عزله، وقد ذكر الكاسانيّ أن عزل الإمام للقاضي ليس بعزل له حقيقةً، بل بعزل العامة لما ذكر من أن توليته بتولية العامة، والعامة ولوه الاستبدال دلالةً لتعلّق مصلحتهم بذلك، فكانت ولايته منهم معنىً في العزل أيضاً فهو الفرق بين العزل والموت، ولا يملك القاضي عزل نائبه المأذون له في تعيينه لأنه نائب الإمام، فلا ينعزل بعزله ما لم يكن الإمام قد أذن له باستبدال من يشاء فيملك عزله، ويكون ذلك عزلاً من الخليفة لا من القاضي‏.‏

وذهب الشافعية إلى أنه إذا ظهر منه خلل فللإمام عزله، قال في الوسيط‏:‏ ويكفي فيه غلبة الظنّ، وإن لم يظهر خلل نظر إن لم يكن من يصلح للقضاء، لم يجز عزله، ولو عزله لم ينعزل، وإن كان هناك صالح نظر إن كان أفضل منه جاز عزله وانعزل المفضول بالعزل، وإن كان مثله أو دونه، فإن كان في العزلة به مصلحة من تسكين فتنة ونحوها، فللإمام عزله به، وإن لم يكن فيه مصلحة لم يجز، فلو عزله نفذ على الأصحّ مراعاةً لطاعة السّلطان، ومتى كان العزل في محلّ النظر، واحتمل أن يكون فيه مصلحة، فلا اعتراض على الإمام فيه، ويحكم بنفوذه، وفي بعض الشّروح أن تولية قاض بعد قاض هل هي عزل للأول‏؟‏ وجهان وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان‏.‏

والوجه الثاني عند الحنابلة أن القاضي لا ينعزل بعزل الإمام دون موجب لأن عقده كان لمصلحة المسلمين فلا يملك عزله مع سداد حاله، ونقل القاضي أبو يعلى من الحنابلة القول بأن الإمام ليس له عزل القاضي ما كان مقيماً على الشرائط لأنه بالولاية يصير ناظراً للمسلمين على سبيل المصلحة لا عن الإمام، ويفارق الموكّل، فإن له عزل وكيله لأنه ينظر في حقّ موكّله خاصةً‏.‏ وهل ينعزل القاضي إذا كثرت الشكوى عليه‏؟‏

اختلف العلماء في ذلك إلى ثلاثة مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ وجوب عزله إلا إذا كان متعيّناً للقضاء، وهو ما قال به العزّ بن عبد السلام‏.‏

الثاني‏:‏ جواز عزله، فإذا حصل ظنّ غالب للإمام بصحة الشكاوى جاز له عزله وهو رأي الشافعية‏.‏

واستدلّوا على ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عزل إماماً يصلّي بقوم بصق في القبلة وقال‏:‏ لا يصلّي لكم»‏.‏

وجه الاستدلال به هو أنه إذا جاز عزل إمام الصلاة لخلل جاز عزل القاضي من باب أولى‏.‏ الثالث‏:‏ التفصيل، وهو رأي المالكية، إن اشتهر بالعدالة، قال مطرّف‏:‏ لا يجب على الإمام عزله وإن وجد عوضاً منه فإن في عزله إفساداً للناس على قضاتهم، وقال أصبغ‏:‏ أحبّ إلي أن يعزله وإن كان مشهوراً بالعدالة والرّضا إذا وجد منه بدلاً‏;‏ لأن في ذلك إصلاحاً للناس، يعني لما ظهر من استيلاء القضاة وقهرهم ففي ذلك كفّ لهم‏.‏

وإن كان غير مشهور فليعزله إذا وجد بدلاً منه وتضافر عليه الشكية، وإن لم يجد بدلاً منه كشف عن حاله وصحة الشكاوى عليه بواسطة رجال ثقات يستفسرون عن ذلك من أهل بلده فإن صدقوا ذلك عزله، وإن قال أهل بلده‏:‏ ما نعلم منه إلا خيراً أبقاه ونظر في أحكامه الصادرة فما وافق السّنة أمضاه، وما خالف رده وأول ذلك بأنه صدر عنه خطأً لا جوراً‏.‏

إنكار كونه قاضياً

64 - وذلك إما أن يقع من القاضي نفسه أو من الإمام‏.‏

فإن وقع من القاضي ولم يكن تعمده لغرض من الأغراض أو لحكمة في إخفاء شخصيته فقد نقل الخطيب الشّربينيّ عن البحر أنه ينعزل عن القضاء، وإن وقع الإنكار من الإمام لم ينعزل‏.‏

طروء ما يوجب العزل

65 - إذا طرأ على القاضي من الأحوال ما يفقده صفةً من الصّفات التي لو كان عليها قبل تعيينه لم يصح أن يتولى الحكم - كالجنون والخرس والفسق - فهل تبطل ولايته‏؟‏ أم لا بد من عزل الإمام له‏؟‏‏.‏

للحنفية والمالكية في ذلك قولان‏:‏ قول ينعزل بمجرد طروء ما يوجب العزل وهو الأصحّ عند الشافعية‏.‏

وقول آخر‏:‏ لا ينعزل حتى يعزله الإمام وهو قول للشافعية أيضاً‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أن ما يمنع التولية ابتداءً كالجنون والفسق يمنعها دواماً‏.‏

واستثنى الشافعية من ذلك الأعمى الذي عاد بصره وقالوا‏:‏ لا ينعزل لأنه تبين بعودة بصره أنه لم ينعزل‏.‏

وأما غير الأعمى فقد اختلفوا فيه إلى قولين‏:‏ الأصحّ منهما لم تعد ولايته بلا تولية كالوكالة‏;‏ لأن الشيء إذا بطل لم ينقلب إلى الصّحة بنفسه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ تعود من غير استئناف تولية‏.‏

وقطع السرخسيّ بعودها في صورة الإغماء‏.‏

نفاذ العزل

66 - لا خلاف بين الفقهاء في أن الإمام إذا عزل القاضي فأحكامه نافذة، وقضاياه ماضية حتى يعلم بالعزل، فعلمه بذلك شرط لصحة عزله - عند من يقول بجواز عزله - وذلك لتعلّق قضايا الناس وأحكامه به وما تدعو إليه الضرورة من وجوب نفاذ أحكامه حتى يصله علم العزل، ولعظم الضرر في نقض أقضيته‏.‏

عزل القاضي نفسه

67 - ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن القاضي ينعزل إذا عزل نفسه عن القضاء‏;‏ لأنه وكيل والوكالة تبطل بعزل الوكيل، وقيد صاحب الرّعاية من الحنابلة ذلك بما إذا كان القاضي لم يلزم بقبول القضاء‏.‏

ويرى المالكية أن القاضي إذا عزل نفسه اختياراً لا عجزاً ولا لعذر فالظاهر عند البعض أنه يمكن من ذلك، لكن ينبغي أن يلتفت في عزله نفسه إلى النظر فيما إذا كان قد تعلق لأحد حقّ بقضائه حتى لا يكون انعزاله ضرراً لمن التزم القضاء بينه وبين خصمه فيمنع من ذلك‏.‏

وقال الماورديّ من الشافعية‏:‏ لا يعتزل القاضي القضاء إلا لعذر ولو عزل القاضي نفسه إن تعين عليه لم ينعزل‏؟‏ وإن لم يتعين عليه هل ينعزل فيه وجهان‏:‏ أصحّهما نعم، قال النوويّ‏:‏ للقاضي أن يعزل نفسه كالوكيل، ونقل عن الإقناع للماورديّ‏:‏ أنه إذا عزل نفسه لا ينعزل إلا بعلم من قلده‏.‏

ما يترتب على موت القاضي وعزله واعتزاله

68 - تترتب على موت القاضي وعزله واعتزاله الأمور التالية‏:‏

أ - انتهاء ولايته، فلا يجوز له إذا بلغه الخبر - عند من يقول بصحة عزله - أن ينظر في شيء من أمور القضاء وكذلك إذا عزل نفسه، أما أحكامه التي صدرت أثناء ولايته فهي صحيحة نافذة إذا كانت موثقةً في سجلّ أو قامت عليها بيّنة‏.‏

ب - انعزال كلّ مأذون له في شغل معين كبيع على ميّت أو غائب وسماع شهادة في حادثة معينة‏.‏

وأما من استخلفه في القضاء ففيه ثلاثة أوجه، أحدها‏:‏ ينعزل كالوكيل، والثاني‏:‏ لا، للحاجة، وأصحّها‏:‏ ينعزل إن لم يكن القاضي مأذوناً له في الاستخلاف، لأن الاستخلاف في هذا لحاجته، وقد زالت بزوال ولايته، وإن كان مأذوناً له فيه لم ينعزل‏.‏

ج - نص الشافعية على أن القوام على الأيتام والأوقاف لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله لئلا تتعطل مصالح المسلمين وهو المذهب خلافاً للغزاليّ الذي جعلهم كالخلفاء‏.‏

د - في حالة عزله أو استقالته لا يقبل قوله إنني كنت قد حكمت لفلان بكذا إلا إذا قامت بذلك بيّنة، والصحيح أنه لا تقبل شهادته بذلك مع آخر لأنه يشهد على فعل نفسه، وهو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والشافعية، أما الحنابلة فيرون قبول قوله لأن القاضي أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته‏.‏

هـ - أن يقوم القاضي الذي عزل أو اعتزل بتسليم ما تحت يده من سجلات ومحاضر وصكوك وودائع وأموال للأيتام‏;‏ لأن ذلك كان في يده بحكم عمله، فلزم تسليمها للقاضي المعين بدلاً عنه‏.‏

ثانياً‏:‏ المقضيّ به

69 - يتعين على القاضي أن يحكم بما في كتاب الله تعالى من الأحكام التي لم تنسخ، فإن لم يجد فبسنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد قضى بالإجماع، فإن لم يجد شيئاً من ذلك، فإن كان القاضي من أهل الاجتهاد قاسه على ما يشبهه من الأحكام واجتهد رأيه وتحرى الصواب ثم قضى برأيه، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يستفتي في ذلك فيأخذ بفتوى المفتي، ولا يقضي بغير علم، ولا يستحيي من السّؤال لئلا يلحقه الوعيد المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار وقاض في الجنة‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏الملحق الأصوليّ‏)‏‏.‏

وأما ما يقع القضاء به من الأمور كالبيّنة وعلم القاضي والإقرار واليمين فتنظر في مصطلحاتها ومصطلح ‏(‏إثبات ف وما بعدها‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ المقضيّ له

70 - لا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه ولو رضي خصمه بذلك، فإن حكم على نفسه فيكون كالإقرار منه بما ادعى خصمه عليه، ولا يحكم لشريكه في المشترك‏.‏

ويجوز أن يحكم للإمام الذي قلده، أو يحكم عليه، فقد قلد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه شريحاً وخاصم عنده‏;‏ لأن القاضي نائب عن جماعة المسلمين وليس نائباً عن الإمام‏.‏

ولا يجوز قضاؤه لمن لا تقبل شهادته له‏;‏ لأن مبنى القضاء على الشهادة، ولا يصحّ شاهداً لمن لا تقبل شهادته له، فلا يصحّ قاضياً له لمكان التّهمة، ويجوز أن يقضي عليهم لأنه لو شهد عليهم لجاز فكذا القضاء، ولا ينفذ قضاؤه لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل وهو ما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة، وخالف أبو يوسف من الحنفية والمزنيّ وأبو ثور من الشافعية وأبو بكر من الحنابلة فقالوا‏:‏ ينفذ حكمه لأنه حكم لغيره فأشبه الأجانب، واتفق الفقهاء على أنه يحكم لعدوّه ولا يحكم عليه فيما عدا الماورديّ من الشافعية فقد جوزه‏.‏

ويرى الشافعية أن وصي اليتيم إذا ولّي القضاء فالمشهور أنه لا يقضي له كولده، وقال القفال‏:‏ يقضي له‏;‏ لأن كل قاض وليّ الأيتام، وهذا هو الصحيح عند متأخّري الأصحاب وعليه العمل‏.‏ وقال الحنفية‏:‏ لا يجوز قضاؤه لامرأته وأمّها وإن كانتا قد ماتتا إذا كانت امرأته ترث من ذلك شيئاً، ولا لأجيره الخاصّ ومن يتعيش بنفقته‏.‏

وفي قضاء القاضي لأقاربه الذين لا تجوز شهادته لهم أربعة أقوال عند المالكية‏:‏ المنع لمحمد ومطرّف، والجواز لأصبغ، في حالة ما إذا كان القاضي من أهل القيام بالحقّ، واستثنى من الجواز الزوجة وولده الصغير ويتيمه الذي يلي ماله، وعند ابن يونس لا يحكم لعمّه إلا أن يكون مبرزاً في العدالة، والرابع التفرقة، فإن قال‏:‏ ثبت عندي لم يجز، وإن حضر الشّهود وكانت الشهادة ظاهرةً جاز إلا لزوجته وولده الصغير ويتيمه، وعند ابن يونس كذلك لا ينبغي للقاضي أن يحكم بين أحد من عشيرته وبين خصمه‏.‏

رابعاً‏:‏ المقضيّ فيه

71 - وهو جمع الحقوق، وهي أربعة أقسام‏:‏ حقّ الله تعالى المحض كحدّ الزّنى أو الخمر، وحقّ العبد المحض، وهو ظاهر، وما فيه الحقان وغلب فيه حقّ الله تعالى كحدّ القذف أو السرقة، أو غلب فيه حقّ العبد كالقصاص والتعزير، فيكون للقاضي النظر في تلك الحقوق، وقال بعض الفقهاء‏:‏ للقاضي النظر في جميع الأشياء إلا في قبض الخراج، وقال القاضي بن سهل‏:‏ يختصّ القاضي بوجوه لا يشاركه فيها غيره من الحكام وهي النظر في الوصايا والأحباس والترشيد والتحجير والتسفيه والقسم والمواريث والنظر للأيتام، والنظر في أموال الغائب والنظر في الأنساب والجراحات وما أشبهها والإثبات والتسجيل، ولا يخلّ ذلك بأن للإمام حق تقييد القاضي زماناً أو مكاناً أو موضوعاً كما سبق في ‏(‏سلطة القاضي واختصاصه، ف / 26‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ المقضيّ عليه

72 - المقضيّ عليه هو كلّ من توجه عليه الحقّ بحكم القاضي، وقد اتفق الفقهاء على أن الحاضر في البلد أو القريب منه إذا لم يمنع من الحضور لا يقضى عليه في غيابه‏;‏ لأنه أمكن سؤاله فلم يجز الحكم عليه قبل سؤاله كحاضر مجلس الحاكم‏.‏

والتفصيل في ‏(‏دعوى ف / 59 - 61‏)‏‏.‏

واختلفوا في جواز القضاء على الغائب فقال جمهور الفقهاء بجوازه بشروط، ومنعه الحنفية، وهذا في الجملة، وللمذاهب في ذلك تفصيل نذكره فيما يلي‏:‏

أ - القضاء على الغائب في الحقوق المالية‏:‏

73 - قال الحنفية‏:‏ لا يقضى على غائب ولا له إلا بحضور نائبه حقيقةً أو شرعاً‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ لا يقضى على غائب أي بالبيّنة، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها وبعد التزكية، وسواء أكان غائباً عن المجلس أم عن البلد‏.‏

أما إذا أقر عند القاضي فيقضى عليه وهو غائب‏;‏ لأن له أن يطعن في البيّنة دون الإقرار‏;‏ ولأن القضاء بالإقرار قضاء إعانة، واذا أنفذ القاضي إقراره سلم إلى المدعي حقه عيناً كان أو ديناً أو عقاراً إلا أنه في الدين يسلّم إليه جنس حقّه إذا وجد في يد من يكون مقرّاً بأنه مال الغائب المقرّ، ولا يبيع في ذلك العرض والعقار‏;‏ لأن البيع قضاء على الغائب فلا يجوز‏.‏

ومثله ما ورد في مجلة الأحكام العدلية من أنه يشترط حضور الخصمين حين الحكم‏.‏‏.‏‏.‏ ولكن لو ادعى واحد على الآخر شيئاً فأقر به المدعى عليه، ثم غاب عن المجلس قبل الحكم كان للحاكم أن يحكم في غيابه بناءً على إقراره‏.‏

واستثنوا من عدم جواز الحكم على الغائب ما إذا كان نائبه حاضراً فيقوم مقام الغائب، والنائب إما أن يكون حقيقةً كوكيله ووصيّه ومتولّي الوقف ونحو ذلك كأحد الورثة فينتصب خصماً عن الباقين وكذا أحد الشريكين في الدين كما ذكره الحصكفيّ‏.‏

وكما يصحّ الحكم على الغائب في حضور نائبه حقيقةً يصحّ في حضور نائبه شرعاً كوصيّ نصبه القاضي، أو حكماً بأن يكون ما يدعي على الغائب سببًا لما يدعي على الحاضر، كما إذا برهن على ذي اليد أنه اشترى الدار من فلان الغائب فحكم الحاكم على ذي اليد الحاضر كان ذلك حكماً على الغائب أيضاً‏.‏

وصرحوا بأن للحاكم أن يحكم على المدعى عليه بالبيّنة التي أقيمت في مواجهة وكيله إذا حضر بعد ذلك مجلس الحكم بنفسه، وكذا لو كان الأمر بالعكس‏.‏

وأجاز المالكية الحكم على الغائب البعيد جدّاً بعد سماع البيّنة وتزكيتها، وذلك بيمين القضاء من المدعي، أما قريب الغيبة فكالحاضر عندهم، قال الدردير‏:‏ وقريب الغيبة كاليومين والثلاثة مع الأمن حكمه كالحاضر في سماع الدعوى عليه والبيّنة، والغائب البعيد جدّاً يقضى عليه في كلّ شيء بعد سماع البيّنة وتزكيتها بيمين القضاء من المدعي‏:‏ أن حقه هذا ثابت على المدعى عليه وأنه ما أبرأه، ولا كلّ الغائب من يقضيه عنه، ولا أحاله به على أحد في الكلّ ولا البعض‏.‏ والعشرة الأيام مع الأمن واليومان مع الخوف كذلك، أي يقضى عليه فيها مع يمين القضاء في غير استحقاق العقار، وأما في دعوى استحقاق العقار فلا يقضى به بل تؤخر الدعوى حتى يقدم لقوة المشاحة في العقار، ويمين القضاء واجبة في المذهب عندهم لا يتمّ الحكم إلا بها‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ القضاء على الغائب جائز إن كان للمدعي بيّنة وادعى جحوده، فإن قال‏:‏ هو - أي الغائب - مقرّ لم تسمع بيّنته، وإن أطلق فالأصحّ أنها تسمع لأنه قد لا يعلم جحوده في غيبته ويحتاج إلى إثبات حقّه فتجعل غيبته كسكوته، والثاني لا تسمع لأن البيّنة إنما يحتاج إليها عند الجحود‏.‏

ويجب على القاضي أن يحلّفه بعد البيّنة‏:‏ أن الحق ثابت في ذمته، وقيل يستحبّ، ولو ادعى وكيل على غائب فلا تحليف على الوكيل بل يحكم بالبيّنة ويعطي المال المدعى به إن كان للمدعى عليه هناك مال‏.‏ ثم قالوا‏:‏ الغائب الذي تسمع البيّنة عليه ويحكم عليه من هو بمسافة بعيدة، وهي التي لا يرجع منها مبكّراً إلى موضعه ليلاً، وقيل‏:‏ مسافة قصر، وأما من هو بمسافة قريبة فكحاضر لا تسمع بيّنته عليه ولا يحكم عليه بغير حضوره إلا لتواريه أو تعزّزه، وعجز القاضي عن إحضاره فيحكم عليه بغير حضوره‏.‏

وصرح الحنابلة بأنه من ادعى حقّاً على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البيّنة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشرائط وذلك في حقوق الآدميّين؛ لحديث زوجة أبي سفيان قالت‏:‏ «يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»، فقضى لها ولم يكن أبو سفيان حاضراً‏.‏ وقالوا‏:‏ إن قدم الغائب قبل الحكم وقف الحكم على حضوره، فإن خرج الشّهود يحكم عليه، ولا يلزم المدعي أن يحلف مع بيّنته الثابتة أن حقه باق، والاحتياط تحليفه، وإذا قضى على الغائب بعين سلّمت إلى المدعي، وإن قضى عليه بدين ووجد له مال وفى منه، قال ابن قدامة‏:‏ ويحتمل أن لا يدفع إليه شيء حتى يقيم كفيلاً أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه فعليه ضمان ما أخذه‏.‏

ب - القضاء على الغائب في الحدود والقصاص‏:‏

74 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز الحكم على الغائب في الحدود على الرغم من قول بعضهم بجواز ذلك في غير الحدود‏.‏

وعلل الحنفية عدم جواز القضاء على الغائب في الحدود والقصاص بأنهما لا يثبتان إلا بالإقرار أو الشهادة، ولا عبرة بالإقرار خارج مجلس القضاء، ولا تجوز الشهادة على الغائب في الحدود والقصاص، حتى إن الطرفين - أبا حنيفة ومحمداً - اشترطا حضور الشّهود في استيفاء بعض الحدود والبداية منهم أيضاً كحدّ الرجم احتياطاً في درء الحدّ، فإذا غاب الشّهود أو غاب أحدهم سقط الحدّ في ظاهر الرّواية‏;‏ ولأن الشّهود إذا بدءوا بالرجم ربما استعظموا فعله فحملهم ذلك على الرّجوع عن الشهادة فيسقط الحدّ عن المشهود عليه‏.‏

وأجاز الشافعية في الأظهر عندهم القضاء على غائب في قصاص وحدّ قذف لأنه حقّ آدميّ فأشبه المال، ومنعوه في حدّ لله تعالى أو تعزير له‏;‏ لأن حق الله تعالى مبنيّ على المسامحة والدرء‏;‏ لاستغنائه تعالى، بخلاف حقّ الآدميّ‏.‏

القول الثاني عندهم المنع مطلقًا‏;‏ لأن ذلك يسعى في دفعه ولا يوسع بابه‏.‏

والقول الثالث الجواز مطلقًا كالأموال وما اجتمع فيه حقّ لله تعالى ولآدميّ‏.‏

أما الحنابلة فقالوا‏:‏ لا يقضى على الغائب في حقّ الله تعالى كالزّنا والسرقة لكن يقضى في السرقة بالمال فقط لأنه حقّ آدميّ‏.‏

سادساً‏:‏ الحكم

75 - الحكم‏:‏ هو عبارة عن قطع الحاكم المخاصمة وحسمه إياها‏.‏

وعرفه المالكية بأنه‏:‏ فصل الخصومة، وفي تعريف آخر‏:‏ الإعلام على وجه الإلزام‏.‏

وعرفه الحنابلة بأنه‏:‏ إنشاء للإلزام الشرعيّ وفصل الخصومات‏.‏

اشتراط سبق الدعوى للحكم

76 - يشترط لصحة الحكم أن تتقدمه دعوى صحيحة خاصة فيما يتعلق بحقوق النّاس، قال الحنفية‏:‏ إنّ الحكم القولي يحتاج إلى الدعوى، والحكم الفعلي لا يحتاج، وقيل‏:‏ إنّ الفعلي لا يكون حكماً، بدليل ثبوت خيار البلوغ للصّغير والصّغيرة بتزويج القاضي على الأصح‏.‏

ولا تشترط الدّعوى والخصومة في القضاء الضمني، فإذا شهدا على خصم بحقّ وذكرا اسمه واسم أبيه وجده، وقضى بذلك الحق كان قضاء بنسبه ضمناً، وإن لم يكن في حادثة النّسب‏.‏

سيرة القاضي في الأحكام

77 - يلزم القاضي أن لا يحكم في القضية حتى لا يبقى له شكّ في فهمه لموضوعها، فإذا أشكل عليه أمر تركه، وقال بعضهم‏:‏ لا بأس أن يأمر فيه بصلح، فإذا تبين له وجه الحكم فلا يعدل إلى الصّلح ويقضي بما يجب عليه القضاء به، فإن خشي من تفاقم الأمر بإنفاذ الحكم بين المتخاصمين أو كانا من أهل الفضل أو بينهما رحم أقامهما وأمرهما بالصّلح، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ردّوا القضاء بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورّث الضغائن‏.‏

استشارة الفقهاء

78 - يرى الفقهاء أنه عند اختلاف وجوه النظر وتعارض الأدلة في حكم، يندب للقاضي أن يشاور الفقهاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ‏}‏، قال الحسن البصريّ‏:‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مستغنياً عنها، ولكن أراد أن تصير سنةً للحكام، وروي‏:‏ ‏"‏ما رأيت أحداً أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏، وقد شاور أبو بكر رضي الله عنه الناس في ميراث الجدة، وشاور عمر رضي الله عنه في دية الجنين، وشاور الصحابة رضي الله عنهم في حدّ الخمر، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله منهم عثمان وعليّ وطلحة، والزّبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، إذا نزل به الأمر شاورهم فيه، ونقل ابن قدامة أنه لا مخالف في استحباب ذلك وإذا كان الحكم معلوماً بنصّ أو إجماع أو قياس جليّ لم يحتج القاضي إلى رأي غيره‏.‏ قال القاضي حسين من الشافعية‏:‏ إذا أشكل الحكم فالمشاورة واجبة وإلا فمستحبة‏.‏

ولا ينبغي أن يشاورهم بحضرة الناس‏;‏ لأن ذلك يذهب بمهابة المجلس والناس يتهمونه بالجهل، ولكن يقيم الناس عن المجلس ثم يشاورهم، وإذا كان القاضي يدخله حصر بإجلاسهم عنده ويعجزه الكلام بين أيديهم فلا يجلسهم، بل يبعث إليهم ويسألهم إذا أشكل عليه شيء من أحكام الحوادث‏.‏

والأمر الذي يؤمر بالمشاورة فيه هو النوازل الحادثة التي لم يتقدم فيها قول لمتبوع، أو ما اختلف فيه العلماء من مسائل الاجتهاد، ليتنبه بمذاكرتهم ومناظرتهم على ما يجوز أن يخفى عليه، حتى يستوضح بهم طريق الاجتهاد، فيحكم باجتهاده دون اجتهادهم، فإن لم يشاور وحكم نفذ حكمه إذا لم يخالف فيه نصّاً أو إجماعاً أو قياساً جليّاً غير محتمل‏.‏

ويشترط فيمن يشاوره القاضي‏:‏ أن يكون أميناً عالماً بالكتاب والسّنة، والآثار، وأقاويل الناس والقياس ولسان العرب، كما نص عليه الإمام الشافعيّ‏.‏

وعلى هذا فكلّ من صح أن يفتي في الشرع جاز أن يشاوره القاضي في الأحكام فتعتبر فيه شروط المفتي ولا تعتبر فيه شروط القاضي‏.‏

ولمعرفة الشّروط المعتبرة في المفتي ينظر مصطلح ‏(‏فتوى ف / 11 - 20‏)‏‏.‏

صيغة الحكم

79 - لا يشترط جمهور الفقهاء ألفاظًا مخصوصةً وصيغًا معينةً للحكم بل كلّ ما دل على الإلزام فهو حكم، كقوله‏:‏ ملكت المدعي الدار المحدودة، أو فسخت هذا العقد، أو أبطلته أو رددته، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على نفي أو إثبات بعد حصول ما يجب في شأن الحكم من تقدّم دعوى صحيحة‏.‏

وذهب شمس الإسلام محمود الأوزجنديّ من الحنفية إلى أنه لا بد أن يقول القاضي‏:‏ قضيت أو حكمت أو أنفذت عليك القضاء، لكن الصحيح عند الحنفية هو ما يقول به جمهور الفقهاء وأن قول القاضي‏:‏ حكمت أو قضيت ليس بشرط‏.‏

وذهب الشافعية إلى أن صيغة الحكم الصحيح‏:‏ حكمت أو قضيت بكذا، أو أنفذت الحكم به، أو ألزمت الخصم به‏.‏

واختلف الفقهاء فيما إذا قال القاضي‏:‏ ثبت عندي أن لهذا على هذا كذا وكذا، هل يكون حكماً‏؟‏ فذهب المالكية في أحد القولين والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية إلى أنه لا يعدّ حكماً‏;‏ لأنه ليس بإلزام، والحكم إلزام‏.‏

وذهب أبو عاصم العامريّ وهو اختيار شمس الأئمة الحلوانيّ واختيار الصدر الشهيد - من الحنفية - وفي الخانية وعليه الفتوى إلى أن القاضي إذا قال‏:‏ ثبت عندي، يكفي، وكذا‏:‏ ظهر عندي أو صح عندي، أو قال‏:‏ علمت، فهذا كلّه حكم‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إذا سئل القاضي عن حكم فأفتى بأنه لا يجوز أو لا يصحّ فلا يكون إفتاؤه حكماً يرفع الخلاف‏;‏ لأن الإفتاء إخبار بالحكم لا إلزام، أما إذا حكم بفسخ أو إمضاء فيكون حكماً‏.‏

سجلّ الحكم

80 - إذا انتهى القاضي من نظر الدعوى وأصدر حكمه، فيسنّ له أن يكتب حكمه في سجلّ من نسختين يبيّن فيه ما وقع بين ذي الحقّ وخصمه، ومستند الدعوى من الأدلة وما حكم به القاضي فيها، وتسلم إحدى النّسخ للمحكوم له والأخرى تحفظ بديوان الحكم مختومةً مكتوبًا عليها اسم كلّ من الخصمين، وذلك دون طلب، فإن طلب الخصم أن يسجل له الحكم، فيجب على القاضي إجابته‏.‏

وتفصيل أحكام السّجلّ وما يتعلق به ينظر في مصطلح ‏(‏سجلّ ف / 8 وما بعدها‏)‏‏.‏

أنواع الحكم

81 - يتحقق الحكم إما بقول يصدر عن القاضي بعد نظر الدعوى كقوله‏:‏ ألزمت أو قضيت بكذا، وإما بفعل يصدر منه كتزويج اليتيمة الصغيرة، وذلك عند من يقول بأن فعل القاضي حكم، إذ يرى بعض الفقهاء أن أفعال القاضي من قبيل أعمال التوثيق لأنه لا يشترط سبق دعوى‏.‏

وإذا أصدر القاضي حكمه فهو إما أن يحكم بصحة التصرّف في العين موضوع النّزاع أو يحكم بالموجب، وقد يكون قضاؤه بالاستحقاق أو بالترك، وقد يكون الحكم قصديّاً أو تضمّنيّاً، وتفصيل هذه الأنواع فيما يلي‏:‏

أ - الحكم بالصّحة وبالموجب‏:‏

82 - عرف سراج الدّين البلقينيّ الشافعيّ الحكم بالصّحة بأنه‏:‏ عبارة عن قضاء من له ذلك في أمر قابل لقضائه ثبت عنده وجوده بشرائطه الممكن ثبوتها أن ذلك الأمر صدر من أهله في محلّه على وجهه المعتبر عنده في ذلك شرعاً، ومعنى صحته، كونه بحيث تترتب آثاره عليه‏.‏ والحكم بالصّحة يستدعي ثلاثة أشياء‏:‏ أهلية التصرّف، وصحة صيغته، وكون تصرّفه في محلّه، ولذلك اشترط فيه ثبوت الملك والحيازة‏.‏

وعرف البلقينيّ الحكم بالموجب بأنه قضاء المتولّي بأمر ثبت عنده بالإلزام، بما يترتب على ذلك الأمر خاصّاً أو عاماً على الوجه المعتبر عنده في ذلك شرعاً‏.‏

والحكم بالموجب يستدعي شيئين‏:‏ أهلية التصرّف، وصحة صيغته فيحكم بموجبهما‏.‏

وتوجد فروق بين الحكم بالصّحة والحكم بالموجب مختلف فيها بين الفقهاء، منها‏:‏ أن الحكم بالصّحة منصبّ إلى نفاذ العقد الصادر من بيع أو وقف ونحوهما، والحكم بالموجب منصبّ إلى ثبوت صدور ذلك الشيء، والحكم على من صدر منه بموجب ما صدر منه، ولا يستدعي ثبوت أنه مالك مثلاً إلى حين البيع أو الوقف ولا بقية ما ذكر فيما يعتبر في الحكم بالصّحة، وقد توسع بعض الفقهاء - مع اختلاف بينهم - في تعداد تلك الفروق وإيراد الأمثلة عليها، ولمزيد من التفصيل يرجع إلى مصادرهم‏.‏

والحكم بالصّحة أعلى درجات الحكم عند الحنفية والمالكية، أما إذا كان الحكم بالموجب مستوفياً لما يعتبر في الحكم بالصّحة كان أقوى لوجود الإلزام فيه وتضمّنه الحكم بالصّحة، وقد يتضمن الحكم بالموجب الحكم بالصّحة، مثال ذلك‏:‏ إذا شهدت عنده الشّهود بأن هذا وقف وذكروا المصرف على وجه معين، فحكم القاضي بموجب شهادتهم، كان ذلك الحكم متضمّناً للحكم بالصّحة والحكم بالموجب‏.‏

وعند المالكية لا يجوز للقاضي أن يحكم بالموجب إلا بعد أن يستوفي الشّروط المطلوبة في الحكم بالصّحة، ويرى ابن عابدين أن المراد بالموجب الذي لا يصحّ به الحكم هو ما ليس من مقتضيات العقد فالبيع الصحيح مقتضاه خروج المبيع عن ملك البائع، ودخوله في ملك المشتري، واستحقاق التسليم والتسلّم في كلّ من الثمن والمثمن ونحو ذلك، فإن هذه وإن كانت من موجباته لكنها مقتضيات لازمة له، فيكون الحكم به حكماً بها بخلاف ثبوت الشّفعة فيه للخليط أو للجار مثلاً، فإن العقد لا يقتضي ذلك أي لا يستلزمه، فكم من بيع لا تطلب فيه الشّفعة، فهذا يسمى موجب البيع، ولا يسمى مقتضًى‏.‏

وقد ذهب الشافعية إلى أن الحكم أنواع ستة‏:‏

الحكم بصحة العقد كالبيع مثلاً، والحكم بموجبه، والحكم بموجب ما ثبت عنده، والحكم بموجب ما قامت به البيّنة عنده، والحكم بموجب ما أشهد به على نفسه، والحكم بثبوت ما شهدت به البيّنة، وأدنى هذه الأنواع الأخير‏;‏ لأنه لا يزيد على أن يكون حكماً بتعديل البيّنة، وفائدته عدم احتياج حاكم آخر إلى النظر فيها، وأعلاها الحكم بالصّحة أو بالموجب وليس أحدهما أعلى من الآخر، بل يختلف ذلك باختلاف الأشياء ففي شيء منها يكون الحكم بالصّحة أعلى من الحكم بالموجب‏.‏ وفي شيء يكون الأمر بالعكس، وفي الغالب أن الحكم بالصّحة يستلزم الحكم بالموجب وعكسه، وليس ذلك دائماً فقد يتجرد كلّ منهما عن الآخر، مثال تجرّد الصّحة‏:‏ البيع بشرط الخيار، فإنه صحيح ولم يترتب عليه أثره، فيحكم فيه بالصّحة ولا يحكم فيه بالموجب‏.‏

ومثال تجرّد الموجب‏:‏ الخلع على نحو خمر فإنه فاسد ويترتب عليه أثره من البينونة ولزوم مهر المثل فيحكم فيه بالموجب دون الصّحة، وكذا الرّبا والسرقة ونحوهما يحكم فيه بالموجب دون الصّحة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ الحكم بالصّحة يستلزم ثبوت الملك والحيازة قطعاً، والحكم بالموجب - بفتح الجيم - حكم بموجب الدعوى الثابتة ببيّنة أو غيرها كالإقرار، فالدعوى المشتملة على ما يقتضي صحة العقد المدعى به من نحو بيع أو إجارة يكون الحكم فيها بالموجب حكم بالصّحة لأنها من موجبه كسائر آثاره فيكون الحكم بالموجب حينئذ أقوى مطلقًا لسعته وتناوله الصّحة وآثارها، والدعوى غير المشتملة على ذلك أي ما يقتضي صحة العقد المدعى به كأن ادعى أنه باعه العين فقط يكون الحكم فيها بالموجب ليس حكماً بالصّحة إذ موجب الدعوى حينئذ حصول صورة بيع بينهما دون أن تشتمل على ما يقتضي صحة البيع حيث لم يذكر أن العين كانت ملكًا للبائع ولم تقم به بيّنة، وصحة العقد تتوقف على ذلك‏.‏

ب - قضاء الاستحقاق والترك‏:‏

83 - المدعي إما أن يظهر محقّاً في دعواه أو مبطلاً، فإذا ظهر محقّاً يقضى له بقضاء الاستحقاق، وإذا ظهر مبطلاً يقضى بقضاء الترك‏.‏

فالأول‏:‏ هو إلزام القاضي المحكوم به على المحكوم عليه بكلام، كقوله‏:‏ حكمت أو ألزمت فأعط الذي ادعى به عليك لهذا المدعي أو سلّمه أو ادفع الدين الذي ادعى به عليك‏.‏

ويقال لهذا القضاء‏:‏ قضاء إلزام وقضاء استحقاق وقضاء ملك، وهو يكون في حالة ظهور حقّ المدعى عند المدعى عليه‏.‏

الثاني‏:‏ هو منع القاضي المدعي عن المنازعة بكلام، كقوله‏:‏ ليس لك حقّ، وأنت ممنوع عن المنازعة مع المدعى عليه، ويقال لهذا القضاء‏:‏ قضاء الترك‏.‏

والفرق بين قضاء الاستحقاق وقضاء الترك على وجهين‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أن المقضي عليه بقضاء الاستحقاق في حادثة لا يكون مقضيّاً له أبداً في تلك الحادثة‏.‏

أما المقضيّ عليه بقضاء الترك في حادثة فيجوز أن يقضى له إذا أثبت دعواه بالبيّنة في تلك الحادثة، مثاله‏:‏ إذا ادعى أحد المال الذي في يد آخر قائلاً‏:‏ إنه مالي وأنكر المدعى عليه وحلف اليمين بالطلب، حكم على المدعي بقضاء الترك، فإذا أقام بعد ذلك البيّنة على دعواه يحكم له‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ إذا ادعى شخص ثالث بأن المحكوم به هو ماله فتسمع دعواه في قضاء الترك، ولا تسمع في قضاء الاستحقاق ما لم يدع تلقّي الملك من جهة المقضيّ له فحينئذ تسمع‏.‏

ج - القضاء القوليّ والقضاء الفعليّ‏:‏

84 - ما يصدره القاضي في حدود ولايته وضمن اختصاصه إما أن يكون قوليّاً بألفاظ تدلّ على الإلزام، كألزمت وقضيت أو ثبت عندي - عند من يقول بأن الثّبوت حكم - أو تدلّ على الترك، كمنعت المدعي من التعرّض للمدعى عليه ويكون الحكم القوليّ قصديّاً، ويدخل الضّمنيّ تبعاً كمن يدعي على كفيل بالمال مقرّ بالكفالة منكر للدين، فبرهن على الكفيل بالدين وقضى عليه بها، كان قضاءً عليه قصداً، وعلى الأصيل الغائب ضمناً، ويشترط للقوليّ سبق الدعوى‏.‏

أو يكون فعلاً‏:‏ وفعل القاضي على وجهين‏:‏

أولاً‏:‏ ما لا يكون موضعاً للحكم كما لو أذنته مكلفة بتزويجها فزوجها، ففعله ليس بحكم لأنه وكيل عنها‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يكون محلاً للحكم كتزويج صغيرة لا ولي لها، فعند البعض أنه حكم، وقال آخرون‏:‏ الأوجه أنه ليس بحكم لانتفاء شرطه أي من الدعوى الصحيحة، ولا يشترط سبق الدعوى في الحكم الفعليّ عند من يقول به‏.‏

أثر الحكم في تحويل الشيء عن صفته

85 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والأوزاعيّ وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد وأبو يوسف وزفر من الحنفية إلى أن قضاء القاضي المستوفي لشروطه، لا يزيل الشيء عن صفته، فلا يحلّ الحرام للمحكوم له إذا كان كاذبًا في دعواه ولا يحرم الحلال‏;‏ لأن القاضي يحكم بالظاهر وألله يتولى السرائر، فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحلّ باطناً، سواء أكان المحكوم به مالاً، أم غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من النار»، فإذا كان المحكوم به نكاحاً لم يحل للمحكوم له الاستمتاع بالمرأة، وعليها الامتناع ما أمكن، فإن أكرهت فلا إثم عليها، والإثم عليه‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أن حكم القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً لكن بشرط أن تكون الدعوى بسبب معين كالنّكاح والبيع والإجارة، فإذا كان الحكم مبنيّاً على شهادة زور فهو محلّ قابل للنفاذ في العقود وفي الفسوخ كالإقالة والطلاق إذا لم يكن القاضي عالماً بكون الشّهود شهود زور، لقول عليّ رضي الله عنه لتلك المرأة‏:‏ ‏"‏شاهداك زوجاك ‏"‏‏.‏

أما في الأمور غير القابلة للإنشاء بسبب كالأملاك المرسلة أي المطلقة عن ذكر سبب الملك والإرث والنسب فلا تنفذ باطناً، وفي رواية عن أبي حنيفة أن الحكم لا ينفذ باطناً في دعاوى الهبة والصدقة والبيع بأقل من القيمة الحقيقية إذا كان مبنى الحكم شهادة زور، وكذلك لا ينفذ عنده باطناً إذا كان المحلّ غير قابل للنفاذ كما إذا ادعى زوجية امرأة في عصمة آخر أو عدته، وأثبت ذلك بشهود زور‏.‏

أثر الحكم في المجتهدات

86 - ذهب المالكية والحنابلة وبعض الشافعية والحنفية - إلا في مسائل استثنوها - إلى أن قضاء القاضي في المجتهدات بما غلب على ظنّه وأدى إليه اجتهاده ينفذ ظاهراً وباطناً، ويرفع الخلاف فيصير المقضيّ به هو حكم الله تعالى باطناً وظاهراً، وذلك مثل قضاء القاضي بشفعة الجوار إذا كان مذهب المقضيّ له لا يجيزها فينفذ ظاهراً وباطناً ويحلّ للأخير الأخذ بهذه الشّفعة، وذهب أبو إسحاق الإسفرايينيّ واختاره الغزاليّ من الشافعية إلى أنه لا ينفذ في الباطن، وقال بعض الشافعية‏:‏ إن كان المحكوم له عالماً بالدليل لم ينفذ القضاء في حقّه باطناً ولا يحلّ له أخذه بشفعة الجوار، وإن كان عامّيّاً نفذ في حقّه باطناً وكان له الأخذ بها‏.‏

نقض الحكم

87 - إذا حكم القاضي في مسألة باجتهاده لخلوّها عن نصّ أو لم يكن مجمعاً على حكمها، لم ينقض حكمه باجتهاد ثان يقارب ظنه الأول ويناقضه، وإنما ينقض حكمه الواقع على خلاف نصّ الكتاب أو السّنة المتواترة أو الإجماع، أو القياس الجليّ، على خلاف بين الفقهاء في ذلك وتفصيل ما ينقض فيه القاضي حكم نفسه أو حكم غيره ينظر في مصطلح ‏(‏نقض‏)‏‏.‏

نهاية الجزء الثالث والثلاثين